أنت هنا:

  1. “أصحاب ولا أعز”..ومعضلة سينما القوالب الجاهزة

“أصحاب ولا أعز”..ومعضلة سينما القوالب الجاهزة

 

 

فيلم غرباء بالكامل FilmAffinity

رانية النتيفي – نشر في 26/01/2022

 

في العام 2016، صدر الفيلم الإيطالي “غرباء بالكامل” Perfetti sconosciuti والذي اشتهر عالميا بعنوانه الانجليزي Perfect strangers.  الذي اعتبر في الأوساط السينمائية ظاهرة فنية غريبة على المستوى العالمي بالمعنى الحرفي للعبارة. إذ نجح نجاحا ساحقا وحقق 21 مليون دولارا أمريكيا ثم اقتبست نفس القصة في أزيد من عشرين عمل فنّي.

ملصق فيلم غرباء بالكامل – FilmAffinity

 

 

لا شك أن عملا ناجحا بهذا الشكل كان له فريقا متكاملا من حيث الكتابة، كما جرت العادة في الأعمال السينمائية والتلفزيونية الأجنبية. فهو من صنع ماركو بيلاردي Marco Belardi  وإخراج باولو جينوفيسي Paolo Genovese . وكما جرت العادة في الأعمال السينمائية والتلفزيونية الأجنبية، فقد شارك في كتابة سيناريو الفيلم مجموعة من الكتّاب وهم: باولو جينوفيسي نفسه، فيليبو بولونيا Philippo Bologna ، باولو كوستيلّا Paolo Costella ، باولا مامّيني Paola Mammini ، ورولاندو رافيلّو  Ronaldo Ravello.

في هذا السيناريو الذي جمع الكتّاب الإيطاليين الخمس، القصة قائمة حول زوجين: إيفا Eva ، المعالجة النفسيّة، وروكو Rocco الطبيب الأخصائي التجميل، اللذين يقومان بدعوة أصدقائهما المقربين إلى العشاء، وهم الزوجين كوزيمو  Cosimo وبيانكا Bianca ، ليلي Lili  وكارلوتا Carlota ، وبيبي Pepe . يعيش إيفا وروكو أزمة في حياتهما الزّوجيّة منذ مدة، ما يؤثّر كذلك على سلوك إبنتهما المراهقة صوفيا.

 كوزيمو وبيانكا هما عروسين جديدين، سائق سيارة أجرة والطبيبة البيطرية. يواجه الزوجان الثالث كذلك عقبات في حياتهما. أما آخرهم، بيبي الذي يعمل كمدرس تربية بدنية، فمنذ طلاقه وهو يعيش حالة عدم استقرار على المستوى العاطفي والمهني.

ككل لقاء بين أصدقاء يعرفون بعضهم البعض منذ سنوات، تبدأ هذه اللمة بين الأصدقاء بضحكات ونكات وقفشات بعيدة كل البعد عن الصوابية السياسية. إذ تبدو اللقطات في البداية وكأنها جلسة طبيعية بين أصدقاء بالفعل وليس مشهدا تمثيليا حفظ سطوره المشخصون. بل أن إطار التصوير نفسه Cadres  تبدو وكأنها لقطات مسجلة بالهواتف النقالة المنتشرة حاليا ذات الجودة العالية في التصوير. مع سلاسة كبيرة في تغيير زوايا التصوير الذي رغم أنه داخلي في الأغلبية الساحقة لمشاهده. إلا أن حركة الكاميرا السلسة كانت وكأنها عين مشاهد يتواجد بهذا المنزل حيث تدور الأحداث. ما يشعر المشاهد بالحميمية والألفة، إلى أن يدق ناقوس الخطر لحظة الانتقال إلى عقدة الفيلم: بداية اللعبة.

مشهد من فيلم غرباء بالكامل – Filmaffinity

 

 

اللعبة

تقترح إيفا وضع جميع الهواتف المحمولة على الطاولة، وقراءة جميع الرسائل الواردة بصوت عال، والرد على كل المكالمات بتقنية تضخيم الصوت Loud speaker. هو موضوع يبدو في ظاهره بسيط، إلا أنه حقل ألغام.

ليتبين هنا إن كان هؤلاء الأصدقاء فعلا يعرفون بعضهم البعض أم أن تلك الهواتف باتت كالعلبة السوداء، مليئة بالأسرار التي قد تغير مجرى العلاقات الإنسانية، سواء العلاقات العاطفية، أو الصّداقة.. طالما هي أجهزة مدعومة برموز سرية وتحوي رسائل يضمن مرسلها أنها لن تصل إلا للشخص المرسل إليه دون غيره، وهو سلاح ذو حدين من السهل أن يكون المحرك للممارسات غير تقليدية بالنسبة للكثيرين.

23 نسخة لنفس القصة

كانت عالمية الفكرة التي يطرحها الفيلم من العوامل الأساسية في انتشارها، فسواء كنا في إيطاليا أم كوريا، لبنان أم الهند. فالهواتف تستخدم بنفس الشكل. إضافة إلى المعالجة الدرامية التي تتم هنا في قالب بسيط وحميمي: وجبة عشاء بين الأصدقاء القدامى. أي أن الأمر هنا يتعلق بتقديم السهل الممتنع.

أنتجت لفيلم Perfect strangers 20 نسخة مقتبسة كأفلام سينمائية، و3 أعمال مسرحيّة. وذلك في 20 بلد.

ملصق النسخة اليونانية لفيلم غرباء بالكامل

 

 

كانت اليونانية هي أول لغة ينقل إليها الفيلم وذلك نظرا للعامل الجغرافي والثقافي المشترك بين إيطاليا واليونان، وذلك في نفس العام الذي صدرت فيه النسخة الإيطالية الأصلية، 2016. ثم نقل الفيلم إلى اللغة الإسبانية في العام 2017، و في العام 2018 نقل إلى التركية ثم الهندية والفرنسية والكورية والمجرية والصينية، ومرة أخرى إلى الإسبانية في إنتاج مكسيكي. لتتوالى بعدها النسخ المترجمة الأخرى للفيلم في روسيا ووبولونيا وألمانيا والفييتنام، واليابان ورومانيا وإسرائيل وهولندا، والتشيك وسلوفاكيا. كما صدرت نسخة عربية للفيلم إنتاج نتفليكس بتعاون مصري لبناني إماراتي.

كسرت القصة القالب السينمائي واقتبست كذلك في أعمال مسرحية، حيث قدمت في كولومبيا على ركح مسرح ميتروبوليتان في العاصمة بوينوس أيريس، من إخراج غييرمو فرانسيجا Guillermo Francella ، كما قدمت مسرحيتين، في المكسيك والأوروغواي.

التقنية في الاقتباس

إذا كانت السينما فنّا وتقنيّة.. فأمام صناع الأفلام ما لا نهاية من التقنيات لأعمالهم إن كانوا مخيرين في ذلك، وليسوا محكمين بالقالب الأوحد لأسباب قانونية أو اقتصادية أو سياسية… وفي حالة الاقتباس السينمائي، كما حدث في حالة Perfect strangers الذي نال عددا من الجوائز. فالمشاهد هنا قد يتوقع أنه نال فرصة مشاهدة نفس الفيلم بأسلوب آخر، وإضفاء عناصر ومنعطفات أخرى للقصة وتغيير تفاصيل متعلقة بالشخصيات والأماكن، ما يشكل متعة بالنسبة لمحبي السينما ولا يشعره أنه يشاهد نفي الفيلم مع تغيير الممثلين. إلا أن هذا يتوقف على نوع الاقتباس. أ هواقتباس كامل أم اقتباس جزئي. أم أن الفيلم هنا هو عبارة عن إعادة قولبة العمل بأكمله.

ملصق فيلم “الجريمة والعقاب” المقتبس من رواية فيودور دوستويفسكي

 

 

إن مرجعية المشاهد العربي تمهد لهذه النظرة، فقد تعود على مشاهدة مسرحيات وأفلام ومسلسلات مقتبسة من أعمال روائية عربية. بداية من سينما الأبيض والأسود وتحويل روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وغيرهم من مبدعي تلك الحقبة، مثل “بداية ونهايةّ و”الطريق المسدود” و”أرض النفاق” وهي كلها أعمال ساهمت شهرة كتابها والشعبية التي يحظون بها عربيا في انتشارها سينمائيا على مستوى كل البلدان العربية التي عرفت السينما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كما اشتهرت أفلام اقتبست عن روايات أجنبية مثل “الجريمة والعقاب” تأليف محمد عثمان في العام  1957 والذي تختلف تفاصيله عن رائعة فيودور دوستويفسكي المقتبس منها. اشتهر أيضا قبله في أربعينيات القرن الماضي فيلم “الأحدب” المأخوذ من رواية فيكتور هوغو “أحدب نوتر دام” تأليف محمود إسماعيل. في 1974 تم تقديم فيلم الأخوة الأعداء للمخرج حسام الدين مصطفى المقتبس عن رواية “الإخوة كارامازوف” كذلك لدوستويفسكي. والتي اقتبس منها كذلك المسلسل المغربي ّتريكة البطاش” من إخراج شفيق السحيمي، الذي اقتبس كذلك رواية الأرض لـ إيميل زولا في مسلسله “وجع التراب” في العام 2006.

فيلم “الأحدث” المستوحى من رواية أحدب نوتردام

 

 

 لسنا هنا بصدد رصد الأعمال الفنية المقتبسة لكن التوقف عندها يبرز أمرا هاما. إذ لم تكن هوية الروايات عائقا أمام انتشار الأفلام المقدمة، ففي النهاية يتعلق الأمر بقصص الناس، والتي تصل بالشكل الصحيح للمتلقي طالما تم الاعتماد على ترجمة سليمة للقصة من جهة، وصياغة السيناريو تمت بالشكل الذي يلامس وجدان المشاهد في بلد عربي، وإن حدث ذلك من خلال إدخال تعديلات، ذلك أن هذه الأعمال أشرف على اقتباسها ونقلها للمشاهد كتّاب سيناريو لهم وزنهم، جعلوا من هذه الاقتباسات أعمالا رائعة موازية للعمل الأصلي.

نتج عن هذه الموجة عشرات الأفلام المقتبسة وذات الأثر الكبير في تاريخ السينما العربية، على الرغم من وجود أفلام ومسرحيات أجنبية مقتبسة من نفس الأعمال. لأن تعريبها كان يتم بشكل يجعلها هي الأقرب إلى ثقافة ومرجعية المشاهد العربي.

غير أنه في زمننا الحالي كثرت الفضائيات ومنصات المشاهدة الرقمية وقاعات السينما. ما جعل الفرجة على الانتاجات الأجنبية متاحا بشكل أكبر خاصة مع توفر الترجمة من خلال الدبلجة والسطرجة Sous titres. إلا أنه هذا لم يمنع الجهات الإنتاجية من صنع أفلام ومسلسلات مقتبسة عن سابقتها وصار ذلك أمرا متداولا. على سبيل المثال عدد لافت من أفلام هذا الموسم والذي سبقه هي أفلام تمت إعادة صياغتها، مثل: كروئلا، قصة الحي الغربي West side story ، وأعمال تلفزيونية كـ Gossip girl و Sex and the city هو أمر يوحي بنضوب الأفكار والإنغلاق في حقبة زمنية محددة.

مشهد من كروئلا – 2021

 

 

كانت هذه هي النقطة السلبية في ظاهرة اقتباس الفيلم الإيطالي Perfetti sconosciuti في عشرين بلد آخر. إذ أن النسخ الأكثر انتشارا، كالاسبانية والفرنسية، هي كذلك تناولت القصة الأصلية بنفس فكرتها الأساسية والأبطال والبداية والعقدة والنهاية. يتجلى الفرق في مستوى الإخراج والتمثيل. ذلك أن النسخة الإسبانية للفيلم والتي حملت عنوان “غرباء بالكامل” Perfectos desconocidos كانت من إخراج الفنان المبدع آليكس دي لا إيغليسيا Alex De La Iglesia ، وهو مخرج له لمسة خاصة في أفلام الكوميديا الدرامية والكوميديا السوداء. ما جعل الفيلم أكثر تماسكا والمواقف أكثر إقناعا خاصة مع مشاركة ممثلين إسبان ذوي موهبة وكاريزما كـ بيلين رويدا Belen Rueda  وإدوارد فيرنانيث Eduard Fernandez ، وإدواردو نورييغا Eduardo Noriega ، الأمر الذي جعل الفيلم يحصد أزيد من 30 مليون يورو، وأعاد للسينما الإسبانية المجد والصمود في شباك التذاكر أمام منافسة السينما الأمريكية.

النسخة الإسبانية لفيلم غرباء بالكامل

 

 

أما على المستوى العربي، فقد عرضت شبكة نتفليكس يوم 20 يناير النسخة المعربة من الفيلم بعنوان “أصحاب ولا أعز”، بطولة منى زكي، إياد نصار، نادين لبكي، جورج خباز وفؤاد يمين. وإخراج وسام سميرة. ومنذ الساعات الأولى لإتاحته صار موضوع نقاش وتصدر “تريند” شبكات التواصل وجوجل بين مؤيد ومعارض.

أصحاب ولا أعز – النسخة اللبنانية لفيلم غرباء بالكامل

 

 

على الرغم من أهمية الموضوع المطروح، وكون الحياة الرقمية صارت بالنسبة للكثيرين حديقة سرية يلهون فيها و ويتنامى الجانب المظلم لدى البعض فيعيشون من خلالها ما يصعب عليهم تحقيقه في الواقع طالما هي حبيسة الهاتف. فقد كان عرض النسخة العربية من الفيلم بعد 6 سنوات من نسخته الأصلية وانتشار باقي نسخه خاصة الإسبانية والفرنسية في بلدان شمال أفريقيا والمشرق العربي معضلة حقيقية لم يستطع المخرج التغلب عليها من الناحية الإخراجية. خاصة أن اقتباس الفيلم هنا جاء كليا وليس وجزئيا. واللمسة العربية فيه لم تقدم أي جديد لا في الشكل ولا المضمون وإن كانت جريئة في طرح بعض النقاط. لقد غاب الإبداع بشكل كبير مقارنة مع العمل الأصلي والنسخة الإسبانية، على الرغم من كسر الطابوهات الحاضر بقوة، تم وضع فنانين ذوي موهبة كبيرة في قالب جاهزبشكل مسبق.

إلا أن موهبة نجوم الفيلم أنقذته من ضعف الإخراج وغياب التجديد في مفهوم La mise en scène ، وذلك بفضل منى زكي وخبرتها التي تكونت لديها بعد أعمال متربطة بقضايا المرأة مثل “سهر الليالي”، “أحكي يا شهرزاد”، “لعبة نيوتن”. ونادين لبكي في أفلام أنعشت السينما اللبنانية مثل “سكر بنات” و”وهلّأ لوين”. وجورج خباز في خبرته في الدراما والكوميديا  في أعمال كـ “القناع” و”طالبين القرب” ومسرحياته التي تؤكد أن مدرسة زياد الرحباني ودريد لحام مستمرة بروح أخرى متجددة. والذي كان الفيلم مناسبة له هو والممثل فؤاد يمين لتعريفهما على الجمهور المصري بالأخص، فالممثل فؤاد يمين هو فنان متعدد المواهب وله خبرة في المسرح بدت بشكل واضح في سلاسة تشخيصه وخفة ظله.

أما استنساخ النص والتطرق إلى مواضيع تعتبر شائكة في السينما العربية كالجنس وما يرتبط به من مواضيع: الخيانة الزوجية، العلاقات المثلية، العلاقات العاطفية في مرحلة المراهقة…وكون الهواتف النقالة هي أحيانا الوسيلة لتحقيق هذا المبتغى العسير في الواقع واليسير في العالم الافتراضي، فهي مواضيع تقابل بسياسة النعامة في المجتمعات العربية، ما ينعكس على التعامل معها فنيا وتجري محاولات قمع صانعي هذه الأعمال والمشاركين فيها والتحريض والترهيب ضدهم.

إن كانت السينما العربية قديما قد تطرقت لهذه المواضيع سابقا، سواء في مشاهد واضحة التفاصيل أم بالإيحاء، فالمهمة صارت أصعب مع التقلبات السياسية التي عرفتها الدول العربية منذ بداية الألفية الثالثة ثم الثورات العربية إلى اليوم. ومنه، نستطيع أن نقول أن التطرق إلى مواضيع اجتماعية لا يمنح بالضرورة الفيلم صفة العمل القيم، خاصة إن قامت مؤسسة عالمية كنتفليكس بتقييد العمل وصنع أفلام بقوالب جاهزة خالية من الإبداع بناء على نجاح مثيلاتها.

إن استنساخ العمل الأجنبي ليس هو الشرط للتطرق إلى المجتمع العربي، “الإغراق في المحلية هو السبيل للوصول إلى العالمية”، ولنا مثال في رواية “زقاق المدق” مثال التي حولت إلى فيلم مكسيكي بطولة سلمى حايك، و”شباب امرأة” الذي عرض في مهرجان كــان في العام 1956.  هنا فقط تتحول السينما إلى المرآة متحركة التي تعكس تمشي في الطريق، كما وصفها الأديب “ستندال”.

 

النسخة المكسيكية لرواية زقاق المدق

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أعلى الصفحة